قائد روماني ولد عام ١٠٠ قبل المسيح وتوفى عام ٤٤ ق . م .
هذا الرجل لم يتفان في حب وطنه ولكن ذهب قتيل الطمع - نريد به هذا الرجل العجيب المنقطع النظير ، الذي لم يكن يخلو عن ضرب من ضروب النقائص والرذائل ، وكانت حياته كلها عبارة عن سلسلة تعديات على وطنه .
فان هذا الرجل هو " قيصر " ثالث الرجال العظام المشاهير في الأقدمين . ولد ونشأ وشب متحلياً بصنوف الصفات ، فإنه كان شجاعاً فصيحاً لطيفاً كريماً جواداً في السخاء ، بيد أنه كان يؤثر السذاجة في اعماله ، ولكن لم يكن عنده أقل هم في أن يفرق بين الخير والشر ، لافي العمل ولا المبدأ . وكان قصارى همه ومبدأ جميع أعماله طلب الغاية التي قصر عن بلوغها " ماريوس " و " سيلا " نريد بها التسلط على وطنه . كان قصد الإسكندر الإستيلاء على جميع العالم المعروف وقتئذ ، ووقف هانيبال حياته كلها على وقاية وطنه من النشوب في عبودية الأعداء . أما قيصر فكانت غايته القصوى أن يملك رومة التي تفردت بالاستيلاء على كل الدنيا تقريباً . ونراه قد اتخذ كل الوسائل إدراكاً لهذه الغاية ، غير متذمر من الإسفاف إلى الذرائع السافلة ، بيد أنه لم يرد موارد الجور والجنف تفادياً من الارتطام بأغلاط " ماريوس " و " سيلا " وقد تدرج في الخطط والمراتب من وظيفة إديل ( وهي مأمور مختص ببنايات المدينة وتولي الألعاب ) إلى وظيفة بريتور ( أي كبير قضاة رومة) ثم إلى رتبة رئيس أحبار العاصمة ، وعقد ديونا رابية ليرشو المنتخبين لأن كل هذه الوظائف كانت تنال بالانتخاب ، واستغوى الرجال و النساء ، مستفسداً المتزوجين وغيرهم استفساده عامة الشعب . وما كفاه ما أتاه من ضروب الفساد حتى عمد إلى استعمال الوسائط الأدبية ، فأصبح أعظم خطيب في رومة بعد شيشرون وما زال حتى صار علة على كثيرين من بوادر الفرح والريب في رومة ، فأعيته الإقامة بها فاتفق مع كراستوس البخيل ، وبمبيوس المتكبر ، واختص نفسه بحكومة ولايات غاليا قصد تدويخ هذه البلاد الواسعة ، لا ليزيد مجد رزمة ، بل ليحشد عساكر قاهرة ، ويجمع أموالاً وافرة ، ليقضي ديونه وديون أشياعه .
فأقام مدة ثماني سنين في غاليا يحارب أيام الصيف ، ويعود آونة الشتاء إلى دس الدسائس ويدبر من معسكره في ميلانو مجرى عجرفة مبيوس وبخل كراستوس . وبذلك تسلط مدة عشرة سنين على مجرى الأحوال الرومانية . ثم لما توفى كراستوس في آسيا ، ولم يبق بينه وبين بمبيوس رجل ثالث يمنع تماديهما في الطمع والبغي ، عمد أولاً إلى استعمال الحيل لإرجاء القتال بينهما ، إذ كان قد شعر يسوء عاقبته ، حتى إنه لما تعذر عليه مجانبة القتال ، اجتاز نهر روبيكون ( نهر صغير في شمال ايطاليا ) وسار لمساومة بمبيوس ، وعساكره إذ ذاك في أسبانيا ، فألجأه إلى الفرار من إيطاليا إلى بلاد ابيروس ، وهناك ترك كما قال مدلاً بسطوته ، قائداً بلا جيش ، وذهب إلى أسبانيا فشتت جحافل بمبيوس التي كانت بأمرة افرانيوس . ثم غادر أسبانيا ، واجتاز ايطاليا مسرعاً شاخصاً إلى إدراكاً لعدوه . فصادف بمبيوس نفسه وجعل يقاتله الكرة بعد الكرة . وكانت الواقعة الفاصلة لتلك الحرب الشهيرة سهول " فرسال " فتغلب عليه ، واستأثر بالسلطة المطلقة ، فلاذ بمبيوس بالهرب خوفاً منه إلى أن لاقى أجله قتيلاً في مصر .
ثم إن قيصر جعل يتعقب بقايا حزب بمبيوس في افريقية وأسبانيا ، وقهرهم كافة ، وفتح شمالي آسيا . ثم عاد إلى رومية ليتلذذ بثمار انتصاراته على جميع أعدائه ومناوئيه . ثم اسس فيها ما يعبر عنه بالإمبراطورية الرومانية ، ولكنه ذهب قتيلاً بفتكه الجمهوريين ، لأنه أراد الإسراع في وضع الاسم للمسمى ، بعد أن ملك العالم مدة تزيد على أربع سنوات .
فمما سبق إيراده من أخبار هذه الحياة يرى أن كل الوسائل والتدابيرالمذكورة كانت سيئة كالغاية التي سعى إليها قيصر . ولكن ينبغي إن يعترف له بالفضل من جهة واحدة وهي أنه قصد أن يحول هيئة الحكومة من كونها جمهورية إلى كونها امبراطورية . ليس بأنواع القتل وسفك الدماء ، كما عمل ماريوس وسيلا ، ولكن بتعطيل الأداب الملائمة أخلاق الرومان ، وبحسب قوة العقل المناسبة لسمو مداركه . وبالجملة فان هذا الرجل الغريب الذي كان من أعظم أرباب السياسة ، وخطيباً شهيراً وبطلاً صنديداً ، وعائثا في الأرض . فاسد الأخلاق ، يظلم بلا رحمة ، ويرحم بغير حد ولا قياس ، له مزية خاصة به دون سواه . وهي أنه ذو خلق عجيب يخبر عنه آخر الدهر بكونه أكمل إنسان وجد على الأرض